فصل: تفسير الآية رقم (197)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏178- 179‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ‏(‏178‏)‏ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏179‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏عفا‏}‏ لازمٌ يتعدى بالحرف‏:‏ بعَنْ إلى الجناية، وباللام إلى الجاني، فيقال‏:‏ عفوت لفلان عن جنايته و‏{‏ابتاعٌ‏}‏ خبر عن مضمَر، أي‏:‏ فالأمر اتباع، و‏{‏حياة‏}‏ مبتدأ و‏{‏في القصاص‏}‏ خبره، و‏{‏لكم‏}‏ خبر ثان، أو صلة له، أو حال من الضمير المستكِنْ فيه‏.‏ وفيه من البلاغة والفصاحة ما لا يخفى، جعل الشيء مجيء ضده، وعرّف القصاص ونكْر الحياة ليدل على التعظيم والتعميم، أي‏:‏ ولكم نوع من الحياة عظيم، وذلك لأن العلم به يَرْدَع القاتل عن القتل، فيكون سببَ حياةِ نَفْسَيْن، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل، والجماعة بالواحد، فتثور الفتنة بينهم، فإذا اقتُصّ من القاتل سَلِم الباقون، ويصيرُ ذلك سبباً لحياتهم‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ يا أيها المؤمنون ‏{‏كتب عليكم القصاص في‏}‏ شأن ‏{‏القتلى‏}‏ في العَمْد، فاستسلِموا للقصاص، فالحُر يُقتل ‏{‏بالحر‏}‏، ولا يقتل بالعبد‏.‏ بل يغرم قيمته لسيده، ودليله قوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ ولا حرٌ بعبدٍ» والعبد يقتل بالعبد، إن أراد سيد المقتول قتله، فإن استحياه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بقيمة العبد‏.‏ وكذلك إن قُتل الحر خُيّر أولياؤُه بين قتله أو استرقاقه، فإن استحيَوْه خُيِّر سيدُه بين إسلامه وفدائه بِدِيَةِ الحر العَمْد، والأنثى تُقتل بالأنثى والذكر، والذكر يقتل بالأنثى‏.‏

وتخصيصُ الآية بالمُساوي، قال مالك‏:‏ ‏(‏أحسنُ ما سمعتُ في هذه الآية‏:‏ أنه يُراد بها الجنسُ- أي‏:‏ جنس الحر- والذكر والأنثى فيه سواء‏.‏ وأعيدَ ذِكْرُ الأنثى تأكيداً وتهمُّمَا بإذهاب أمر الجاهلية‏)‏‏.‏ ه‏.‏ يعني أن ‏(‏أل‏)‏ في الحر‏:‏ للجنس، تشمل الذكر والأنثى‏.‏ وأعاد ذكر الأنثى اهتماماً بردِّ ما كان يفعله الجاهلية من عدم القَودَ فيها‏.‏

ثم قال الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏فمن عُفي له من‏}‏ دم أخيه ‏{‏شيء‏}‏ ولو قَلَّ، فقد سقط القتل، فالواجب اتباعٌ للقاتل بالدية ‏{‏بالمعروف‏}‏ من غير تعنيف ولا تعنيت، و‏{‏أداء‏}‏ من القاتل ‏{‏بإحسان‏}‏ من غير مطل ولا بَخس‏.‏

‏{‏ذلك‏}‏- الذي شرعْتُ لكم من أمر العفو والديّة- ‏{‏تخفيف من ربكم ورحمة‏}‏ بكم، وقد كُتب على اليهود القصاص وحده، وعلى النصارى مطلقاً‏.‏ وخيَّركم أيها الأمة المحمدية بين أخذ الديّة والقصاص‏.‏ ‏{‏فمن اعتدى‏}‏ بعد أخذ الديّة وقَتَل ‏{‏فله عذاب أليم‏}‏ في الدنيا والآخرة، في الدنيا‏:‏ بأن يُقتل لا محالة؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «لا أُعَافِي أحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَة»‏.‏

‏{‏ولكم‏}‏ يا معشر المسلمين ‏{‏في‏}‏ تشريع ‏{‏القصاص حياة‏}‏ عظيمة في الدنيا، لانزجار القاتل إذا علَم أنه يُقتص منه، وقد كانوا يَقتُلون الجماعةَ في الواحد، فسلِموا من القتل بشروع القصاص، أو في الآخرة، فإن القاتل إذا اقتُصَّ منه في الدنيا لم يؤخذْ به في الآخرة، فاعتُبِروا ‏{‏يا أولي الألباب‏}‏ أي‏:‏ العقول الكاملة، ما في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس، ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ الله في المحافظة على القصاص، والحكم به والإذعان له، أو تَكُفُّون عن القتل خوفاً من الله‏.‏

الإشارة‏:‏ كما جعل الله القصاص في الجناية الحسيّة، جعل القصاصَ في الجناية المعنوية، وهي الجنايةُ على النفس بسوء الأدب مع الله، فكل من صدر منه هفوةٌ أو زَلَّة، اقْتصَ الحقّ تعالى منه في دار الدنيا، إن كانت له من الله عناية، الكبيرة بالكبيرة والصغيرة بالصغيرة‏:‏ وتأمَّلْ قضية الرجل الذي كان يطوف بالكعبة، فنظر إلى امرأة، فلطَمْته كَفٍّ من الهوى، وذهبت عينه، فقال‏:‏ آه، فقيل له‏:‏ لطمة بنظرة، وإن زدت زدنا‏.‏ ه‏.‏ وقضية أبي تراب النخشبي‏:‏ قال رضي الله عنه‏:‏ ما تمنت نفسي شهوةً من الشهوات إلا مرة واحدة، تمنيت خبزاً وبيضاً وأنا في سفر، فعدلت إلى قرية، فقام واحد، وتعلّق بي، وقال‏:‏ هذا رأيته مع اللصوص، فضربوني سبعين درة، ثم عرفني رجلٌ منهم، وحملني إلى منزله، وقدَّم لي خبزاً وبيضاً، فقلت في نفسي‏:‏ كُلْ بعد سبعين درة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏180- 182‏]‏

‏{‏كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ‏(‏180‏)‏ فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏181‏)‏ فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏182‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إذا حضر‏}‏ ظرف، العامل فيه‏:‏ ‏{‏كتب‏}‏، أي‏:‏ توجَّهَ إيجابُ الوصية عليكم إذا حضر الموت‏.‏ أو مصدر محذوف يفهم من الوصية، أي‏:‏ كتب عليكم الإيصاء إذا حضر الموت، و‏{‏الوصية‏}‏ نائب فاعل ‏{‏كتب‏}‏، ولا يصح أن تعمل في ‏{‏إذا‏}‏؛ لتقدمه عليها؛ لأن المصدر لا يعمل في ما قبله، إلا على مذهب الأخفش‏.‏ اللهم إلا أن يُتوسع في الظروف، وجواب الشرطين محذوف، أي‏:‏ إذا حضر الموت، إن ترك خيراً، فقد كُتبت عليه الوصية‏.‏ والجنَف‏:‏ الميل عن الصواب، فإن كان خطأ فهو جَنَفٌ بلا إثم، وإن كان عمداً فهو جنَف إثم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ كتب الله ‏{‏عليكم‏}‏ أن تُوصوا للوالدين والأقربين ‏{‏إذا حضر أحَدكم الموتُ إن ترك‏}‏ المستحضر ‏{‏خيراً‏}‏ أي‏:‏ مالاً‏:‏ قال سيّدنا عليّ- كرّم الله وجهه-‏:‏ ‏(‏ألف درهم فصاعداً، فلا وصية في أقل‏)‏‏.‏ وقال النخعي‏:‏ ‏(‏خمسمائة درهم لا أقل‏)‏‏.‏ وقال الزُّهْرِي‏:‏ ‏(‏تجب فيما قلّ وكَثُر‏)‏، وعن عائشة- رضي الله عنها-‏:‏ ‏(‏أن رجلاً أراد أن يوصي، فسألته‏:‏ كم مالُك‏؟‏ فقال‏:‏ ثلاثة آلاف‏.‏ فقالت‏:‏ كم عِيالك‏؟‏ فقال‏:‏ أربعة، فقالت‏:‏ لا، إنما قال الله تعالى ‏{‏إن ترك خيراً‏}‏ وإن هذا لَشيء يسير، فاتركْه لعيالك‏)‏‏.‏

وتكون تلك الوصية ‏{‏بالمعروف‏}‏، أي‏:‏ بالعدل، فلا يُفضل الذكور، ولا يتجاوز الثلث‏.‏ فقد حَقَّ الله ذلك ‏{‏حقّاً‏}‏ واجباً ‏{‏على المتقين‏}‏، فمَن غيَّره من الأوصياء أو الشهود ‏{‏بعدما سمعه‏}‏ وعلمه، ‏{‏فإنما إثمه على الذين يبدلونه‏}‏ من الأوصياء أو الشهود، لأنه هو الذي خالف الشرع وغيَّر دون الميت، ‏{‏إن الله سميع عليم‏}‏ فلا يخفى عليه مَنْ بدَّل أو غيَّر، فهو حسيبُه ومُعاقبه، ‏{‏فمن خاف‏}‏ أي‏:‏ علِم ‏{‏من مُوص جنفّا‏}‏ أي‏:‏ ميلاً بالخطأ في الوصية، ‏{‏أو إثماً‏}‏ تعمداً للجنف، ‏{‏فأصلح‏}‏ بين المُوصَى لهم وبين الورثة، بأن أجراهم على منهاج الشرع، أو نقص للموصَى لهم، أو زاد لمصلحة رآها ‏{‏فلا إثم عليه‏}‏؛ لأنه تبديل لمصلحة‏.‏ والتبديل الذي فيه الإثم إنما هو تبديل الهوى، ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏ فيغفر للمبدِّل لمصلحةٍ ويرحمه‏.‏

وهذه الآية منسوخة في وصية الوالدين‏:‏ مُحْكَمة في الأقربين غير الوارثين، بقوله- عليه الصلاة والسلام- في الحيدث المشهور‏:‏ «إنَّ اللّهَ أعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ‏.‏ فلا وَصِيَّةَ لِوَارثٍ» فإذا كان الوالدان غيرَ وارثيْن كالكافرَيْن أو العبدَيْن فهي مُحْكَمة، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن المريد إذا منع نفسه من الشهوات، وحفظ قلبه من الخطَرَات، وصان سرّه من الغَفَلات- وأعظمُ الشهوات حبُّ الرئاسة والجاه، فإذا قتل نفسه ونزل بها إلى السُّفْليات حتى حَضرها الموت، وانقطع عنها الخواطر والخيالات- فإنها تفيض بالعلوم والواردات، فالواجب من طريق الجزم أن يُفيد تلك العلوم، أو يوصي مَنْ يقيدها لينتفع بها الوالدن وهما الأشياخ، والأقربن وهم الإخوان‏.‏

فإن الحكمة تَرِدُ في حال التجلّي كالجبَل، فإن لم يقيدها وأهملها، رجعت كالجمل، فإن أهملها رجعت كالكبش، فإن أهملها رجعت كالطير، ثم ترجع كالبَيْضة ثم تذهب‏.‏ هكذا كان يقول شيخ شيوخنا سيدي على الجمل رضي الله عنه، وكان شيخه سيدي العربي بن عبد الله يقول له‏:‏ ‏(‏إنْ وَرَدَ عليكم واردٌ فقَيِّدْه وأعطني منه نسخة‏)‏‏.‏ وهكذا كان أشياخنا يأمروننا بتقييد الواردات، فَمنْ قَيَّدَ وارداً أو سمعه من غيره، فلا يُغيرْه بمجرد رأيه وهواه‏.‏ فإن تحقق منه نقصاً أو ميلاً عن منهاج الطريقة والحقيقة، فأصلحه، فلا إثم عليه، ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏

ولما ذكر في الآية المتقدمة قاعدتين من قواعد الإسلام في قوله‏:‏ ‏{‏وأقام الصلاة وآتى الزكاة‏}‏، بعد أن ذكر قواعد الإيمان، ذكر القاعدة الثالثة، وهي الصيام

تفسير الآيات رقم ‏[‏183- 185‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏183‏)‏ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏184‏)‏ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏185‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أياماً‏}‏ منصوب على الظرفية، واختُلِف في العامل فيه، والأحسنُ أنه الصيام، ولا يضره الفصل؛ لأن الظرف يُتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، و‏{‏معدودات‏}‏ نعت له، و‏{‏عدة‏}‏ مبتدأ؛ أي‏:‏ فَعَليْهِ عِدَّةٌ‏.‏ و‏{‏أُخر‏}‏ ممنوع من الصرف للعدل عن الألف واللام والوصف‏.‏ و‏{‏شهر رمضان‏}‏ إما خبر عن مضمر، أو مبتدأ، والخبر‏:‏ الألف واللام والوصف‏:‏ و‏{‏شهر رمضان‏}‏ إما خبر عن مضمر، أو مبتدأ، والخبر‏:‏ ‏{‏فمن شهد‏}‏، أو بدل من ‏{‏الصيام‏}‏، على حذف مضاف، أي‏:‏ صيام شهر رمضان‏.‏

و ‏{‏رمضان‏}‏ مصدر رمَض إذا احترق، وأضيف إليه الشهر، وجُعل عَلَما، ومُنع من الصرف للعلَمية والألف والنون‏.‏ وسَمَّوْه بذلك إما لارتماض القلب فيه من حرَّ الجوع والعطش، أو لارتماض القلب فيه من حَرَّ الجوع والعطش، أو لارتماض الذنوب فيه، أو وافق الحرَّ حين نقلوا الشهور عن اللغة القديمة‏.‏ و‏{‏الشهر‏}‏ ظرف، لقوله‏:‏ ‏{‏شهد‏}‏ أي‏:‏ حضر، وقوله‏:‏ ‏{‏ولتكلموا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية، هذه ثلاثُ عِللَ لثلاثة أحكام على سبيل الفِّ والنَّشْرِ المعكوس، أي‏:‏ ولتكملوا العدة أمرتُكم بقضاء عدة أيام أخر، ولتكبروا الله عند تمام الشهر أمرتُكم بصيام الشهر كله، ولعلكم تشكرون أردتُ بكم اليسر دون العسر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ فُرض عليكم ‏{‏الصيام‏}‏ كما فرض ‏{‏على الذين من قبلكم‏}‏ من الأنبياء وأَمَمِهم من لدن آدم، فلكم فيهم أسوة، فلا يشق عليكم ‏{‏لعلكم تتقون‏}‏ المعاصي، فإن الصوم يكسر الشهوة‏.‏ ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «مَنْ اسْتَطَاعَ منْكُمُ البَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَليْه بالصَّوْمِ، فَإِنَّه لَهُ وِجَاء»‏.‏

وذلك الصيام إنما هو في أيام قلائل ‏{‏معدودات‏}‏ فلا يهولكم أمره، ‏{‏فمن كان منكم مريضاً‏}‏ يشق عليه الصيام، ‏{‏أو على سفر‏}‏ فأفطر فعليه صيام عدة ما أفطر ‏{‏من أيام أُخر‏}‏ بعد تمام الشهر، ‏{‏وعلى الذين يطيقونه‏}‏ بلا مشقة، إن أرادوا أن يفطروا ‏{‏فديةُ‏}‏ وهي‏:‏ ‏{‏طعام مساكين‏}‏‏:‏ مُدٍّ لكل يوم‏.‏ وفي قراءة ‏{‏فديةٌ طعامُ مسكين‏}‏ أي‏:‏ وهي طعام مسكين لكل يوم‏.‏ وقيل‏:‏ نصف صاع‏.‏ ‏{‏فمن تطوع‏}‏ بزيادة المُد، أو أطعم مسكينَينْ عن يوم، ‏{‏فهو خير له‏}‏ وأعظم أجراً، ‏{‏وإن تصوموا‏}‏ أيها المطيقون للصيام، ‏{‏خير لكم إن كنتم تعلمون‏}‏ ما في الصيام من الأسرار، والخير المدرار، ثم نسخ بقوله‏:‏ ‏{‏فمن شهد منكم الشهر فليصمه‏}‏‏.‏

وذلك الصيام الذي أُمرتم به هو ‏{‏شهر رمضان‏}‏ المبارك ‏{‏الذي أنزل فيه القرآن‏}‏ أي‏:‏ ابتداء نزوله فيه‏.‏ أو إلى سماء الدنيا، حالة كونه ‏{‏هدى للناس‏}‏ أي‏:‏ هادياً لهم إلى طريق الوصول، وآيات واضحات ‏{‏من الهدى والفرقان‏}‏ الذي يفرق بين الحق والباطل‏.‏ وإن شئتَ قلتَ‏:‏ فيه هدى للناس إلى مقام الإسلام، ‏{‏وبينات‏}‏، أي‏:‏ حججاً واضحة تهدي إلى تحقق الإيمان، وإلى تحقق الفرق بين الحق والباطل، وهو ما سوى الله، فيتحقق مقام الإحسان‏.‏

‏{‏فمن‏}‏ حضر منكم في ‏{‏الشهر‏}‏ ولم يكن مسافراً ‏{‏فليصمه‏}‏ وجوباً، وكان في أول الإسلام على سبيل التخيير؛ لأنه شق عليهم حيث لم يألفُوه، فلما ألفوه واستمروا معه، حتّمه عليهم في الحضور والصحة‏.‏ ‏{‏ومَن كان مريضاً‏}‏ يشق عليه الصيام، ‏{‏أو على‏}‏ جَناح ‏{‏سفر‏}‏ بحيث شرَع فيه قبل الفجر فأفطر فيه، فعليه ‏{‏عدة من أيام أُخر‏}‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر‏}‏ والتخفيف، حيث خفّف عنكم، وأباح الفطر في المرض والسفر، ‏{‏ولا يريد بكم العسر‏}‏ إذ لم يجعل عليكم في الدّين من حرج، وإنما أمركم بالقضاء ‏{‏لتكلموا العدّة‏}‏ التي أمركم بها، وهي تمام الشهر، ‏{‏ولتكبروا الله على ما هداكم‏}‏، أمركم بصيامه فتكبروا عند تمامه‏.‏

ووقت التكبير عند مالك‏:‏ من حين يخرج إلى المُصَلَّى، بعد الطلوع، إلى مجيء الإمام إلى الصلاة، ولفظُه المختار‏:‏ ‏(‏الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد على ما هدانا، اللهم اجعلنا من الشاكرين‏)‏؛ لجمعه بين التهليل والتكبير والشكر امتثالاً لقوله‏:‏ ‏{‏ولعلكم تشكرون‏}‏ على ما أوليناكم من سابغ الإنعام، وسهَّلنا عليكم في شأن الصيام‏.‏

الإشارة‏:‏ كُتب عليكم الصيام عن الحظوظ والشهوات، كما كتب على مَن سلك الطريق قبلكم من العارفين الثقات، في أيام المجاهدة والرياضات، حتى تنزلوا بساحة حضرة المشاهدات، لعلكم تتقون شهود الكائنات، ويكشف لكم عن أسرار الذات، فمن كان فيما سلف من أيام عمره مريضاً بحب الهوى، أو على سفر في طلب الدنيا، فليبادِرْ إلى تلافِي ما ضاع في أيام أُخر، وعلى الأقوياء الذين يُطيقون هذا الصيام، إطعام الضعفاء من قُوت اليقين ومعرفة رب العالمين‏.‏ فمَنْ تطوع خيراً بإرشاد العباد إلى ما يُقوِّي يقينهم، ويرفع فهو خير له‏.‏ وأَنْ تَدُوموا أيها الأقوياء على صومكم عن شهود السَّوَى، وعن مخالطة الحس بعد التمكين، فهو خير لكم وأسلم، إن كنتم تعلمون ما في مخالطة الحس من تفريق القلب وتوهين الهمم، إذ في وقت هذا الصيام يتحقق وحي الفهم والإلهام، وتترادف الأنوار وسواطعُ العرفان‏.‏ فمن شهد هذا فَلْيَدُمْ على صيامه، ومن لم يَقْدِر عليه فَلْيَبْكِ على نفسه في تضييع أيامه‏.‏

واعلم أن الصيام على ثلاث درجات‏:‏ صوم العوام، وصوم الخواص، وصوم خواص الخواص‏.‏

أما صوم العوام‏:‏ فهو الإمساك عن شهوتَي البطن والفَرْج، وما يقوم مقامَهما من الفجر إلى الغروب، مع إرسال الجوارح في الزلاَّت، وإهمال القلب في الغفلات‏.‏ وصاحبُ هذا الصوم ليس له من صومه إلا الجوع، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مَنْ لم يَدَعْ قولَ الزُور والعملَ به فليس لله حاجةٌ في أنْ يدع طعامَه وشرابَه» وأما صوم الخواص‏:‏ فهو إمساك الجوارح كلَّها عن الفَضول، وهو كل ما يشغل العبد عن الوصول، وحاصلُه‏:‏ حفظ الجوارح الظاهرة والباطنة عن الاشتغال بما لا يَعْنِي‏.‏ وأما صوم خواص الخواص‏:‏ فهو حفظ القلب عن الالتفات لغير الرب، وحفظ السر عن الوقوف مع الغير، وحاصله‏:‏ الإمساك عن شهود السَّوى، وعكوفُ القلب في حضرة المولَى، وصاحب هذا صائم أبداً سرمداً‏.‏ فأهل الحضرة على الدوام صائمون، وفي صلاتهم دائمون، نفعنا الله بهم وحشرنا معهم‏.‏ آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏186‏]‏

‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ‏(‏186‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في جواب رجل سأل‏:‏ هل قريب ربنا فنناجيَه، أو بعيد فنناديه‏؟‏ فنزل‏:‏ ‏{‏وإذا سألك عبادي عني‏}‏‏.‏ فقل لهم‏:‏ ‏{‏إني قريب‏}‏ إليهم من أرواحهم لأشباحهم، ومن وَسْواس قلوبهم لقلوبهم، عِلْماً وقدرة وإحاطة، أجيب دعوة الداعي إذا دَعَانِ، سرّاً أو جهراً، ليلاً أو نهاراً، على ما يليق بحاله في الوقت الذي نريد، لا في الوقت الذي يريد، ‏{‏فليستجيبوا لي‏}‏ إذا دعوتُهم للإيمان والطاعة، أَسْلُك بهم طريق المعرفة، ‏{‏وليؤمنوا بي‏}‏ إني قريب منهم فَيَسْتَحْيُوا مني، حياءَ مَنْ يرى أني معه حيث كان، ‏{‏لعلهم يرشدون‏}‏ إلى سلوك طريقتي ودوام محبتي‏.‏

قال البيضاوي‏:‏ اعلم أنه، تعالى، لما أمرهم بصوم الشهر، ومراعاة العدة على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقَّبه بهذه الآية الدالّة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم، تأكيداً وحثّاً عليه‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قُرْب الحقّ تعالى من عباده هو قرب المعاني من المحسوسات، أو قرب الصفات من الذات، أو الذات من الصفات، فإذا تحقق المحو والاضمحلال، وزال البَيْن، وثبت الوصال، لم يبقَ قرب ولا بعد ولا بَينٌ ولا انفصال‏.‏ قال الشيخ القطبُ العارف الكبير سيدي عبد السلام بن مَشِيش رضي الله عنه لأبي الحسن رضي الله عنه‏:‏ حدِّدْ بصرَ الإيمان تَجد الله في كل شيء وعند كل شيء، ومع كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، وقريباً من كل شيء، ومحيطاً بكل شيء، بقرب هو وصَفْهُ، وبحيطةً هي نعتُه، وَعَدّ عن الظرفية والحدود، وعن الأماكن والجهات، وعن الصحبة، والقرب في المسافات، وعن الدَّوْر بالمخلوقات، وامْحَق الكلَّ بوصفه الأول والآخر والظاهر والباطن، «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما كان عليه كان»‏.‏

وقال بعض العارفين‏:‏ الحق تعالى منزَّه عن الأيْنِ والجِهة والكَيْف والمادة والصورة‏.‏ ومع ذلك لا يخلو منه أيْنٌ ولا مكان، ولا كم ولا كيف، ولا جسم، ولا جوهر ولا عرض، لأنه لِلُطْفه سَارٍ في كل شيء، ولنُوريته ظاهر في كل شيء، ولإطلاقه وإحاطته متكيّف بكل كيف، غيرُ متقيِّد بذلك، فمَنْ لم يعرف هذا ولم يُذقْه ولم يشهدْه فهو أعمى البصيرة، محرومٌ من مشاهدة الحق تعالى‏.‏ ه‏.‏

وهذه الإشارات لا يفهمها إلا أهل الذَّوْق من أهل المعاني، فاصحب الرجال أهلَ المعاني تِذُقْ أسرارهم، وتفهم إشاراتهم‏.‏ وإلا فحسبُك أن تعتقد كمال التنزيه، وبطلان التشبيه، وتَمَسَّكْ بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ ‏[‏الشّورى‏:‏ 11‏]‏، وسلَّمْ للرجال في كل حال‏.‏

إِنْ لم تَر الهلاَلَ فسلِّمْ *** لأُناسٍ رأوْه بالأبْصَار

وإذا تحققت أن الحقّ قريب منك كفاك لسانُ الحال عن طلب المقال، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏187‏]‏

‏{‏أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ‏(‏187‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الرفَث‏:‏ مُحَرِّك الجِماع، والفُحْش كالرفوث، وكلام النساء في الجماع، قاله في القاموس، وقال الأزهري اللغوي‏:‏ الرفَث‏:‏ كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وضمَّنه هنا الإفضاء، فعدَّاه بإلى‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في نسخ ما كان في أول الإسلام من تحريم الجِماع في رمضان بعد العشاء أو النوم، ثم إن عمر رضي الله عنه باشر امرأته بعد العشاء، فندم وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر إليه، فقام رجال فاعترفوا بما صنعوا بعد العشاء فنزل قوله‏:‏ ‏{‏أحل لكم ليلةَ الصيام‏}‏ قبل الفجر، الإفضاءُ ‏{‏إلى نسائكم‏}‏ بالجماع‏.‏ وعبَّر بالرفث تقبيحاً لما ارتكبوه‏.‏

ثم علَّل التحليل بقوله‏:‏ ‏{‏هن لباس لكم وأنتم لباس لهن‏}‏، أي‏:‏ وإنما أبحتُ لكم الجماع لقلّة صبركم عليهن، حتى تعانقوهن ويعانقنكم، فيشتمل بعضُكم على بعض، كاشتمال اللباس على صاحبه، كما قال الشاعر‏:‏

إذَا مَا الضَّجِيعَ ثَنَى عِطْفَهَا *** تَثَنَّتْ فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا

وهذه الحالة يقلُّ فيها الصبرُ عن الوقَاع، ‏{‏علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم‏}‏ أي تَخُونُونها فَتُعرِّضُونها للعقاب، وتَحْرمُونها من الثواب، ‏{‏فتاب عليكم‏}‏ لَمّا تُبْتُم واعترفتم بما اقْتَرَفْتُم، وعفا عنكم فمحا ذنوبكم، ‏{‏فالآن باشروهن‏}‏‏.‏ والمباشرة‏:‏ إلصاق البَشْرة بالبشرة، كنايةً عن الجماع، ‏{‏وابتغوا ما كتب الله لكم‏}‏ من النسل، فلا تباشروهن لمجرد قضاء الشهوة، بل اطلبوا ما قدَّر الله لكم، وأثْبتَه في اللوح المحفوظ من الولد، لأنه هو المقصود من تشريع النكاح، وخلق الشهوة، لا مجرد قضاء الوطر‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إذَا مَاتَ البعدُ انْقَطَع عَمَلُه إلا مِنْ ثلاثٍ‏:‏ صَدَقَةٍ جَاريَةٍ، وعِلْمٍ بثَّه في صُدور الرجال، وولدٍ صالحٍ يَدْعُوا لَهُ»‏.‏

وفي حديث طويل عن عائشة- رضي الله عنهما- في قصة الحَوْلاء- امرأة من الأنصار-، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ما من امرأة حمَلَت من زوجها حين تَحْمِل، إلا لها من الأجْر مثل القائم ليلَة الصائم نهارَه، والغازي في سبيل الله، وما من امرأة يأتيها الطَلْقُ، إلا كان لها بكل طَلْقةٍ عِتْق نسمةٍ، وبكل رَضْعة عتق رقبة، فإذا فَطَمت ولَدها ناداها مُنادِ من السماء‏:‏ قد كُفيتِ العملَ فيما مضى، فاستأنفي العمل فيما بقي» قالت عائشة- رضي الله عنها-‏:‏ قد أُعْطِي النساءُ خيراً كثيراً، فما لكم يا معشر الرجال‏؟‏ فضحك النبيّ صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ «ما من رجل مؤمن أخذ بيد امرأتِه يُرَاوِدُها، إلا كتب الله له حسنة، وإنْ عانقها فعشْر حسنات، وإن ضاجعها فعشرون حسنةٌ، وإن أتاها كان خيراً من الدنيا وما فيها، فإذا قام ليغتسل لم يمر الماء على شعره من جسده إلا مُحِيَ عنه سيئة، ويُعطى له درجة، وما يعطى بغُسْله خيراٌ من الدنيا وما فيها، وإن الله تعالى يباهي الملائكة فيقول‏:‏ انظروا إلى عبدي؛ قام في ليلة قَرَّة يغتسل من الجنابة، يتيقن بأني ربه، اشهدوا أني غفرت له»

ه‏.‏ من الثعلبي‏.‏

ثم أباح الحق تعالى الأكلَ والشرب، ليلة الصيام إلى الفجر، فقال‏:‏ ‏{‏وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود‏}‏ شبَّه أول ما يبدوا من الفجر المعترِض في الأفق، بالخيط الأبيض، وما يمتد معه من غَبَشِ الليل، بالخيط الأسود

ولم ينزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏من الفجر‏}‏ إلا بعد مدة، فحمله بعض الصحابة على ظاهره، فعمد إلى خيطٍ أبيض وخيط أسود فجعلهما تحت وِسادته، فجعل يأكل وينظر إليهما، فلم يتبيَّنا، ومنهم عَديُّ بنُ حاتم، قال‏:‏ فغدوتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحِك، وقال‏:‏ «إِنك لَعَرِيضُ القَفا، إِنَّمَا ذلِكَ بَيَاضُ النَّهَارِ وسَوَادُ اللَّيْلِ»، والحديث ثابت في البخاري وغيرِه‏.‏ واعترضه الزمخشري بأن فيه تأخيرَ البيان عن وقت الحاجة، وذلك لا يجوز، لما فيه من التكليف بما لا يطاق‏.‏

وأُجيب بأنه ليس فيه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وإنما فيه تأخير البيان لوقت الحاجة، وهو جائز‏.‏ وبيان ذلك أنه لمّا نزل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود‏}‏ فهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون مُرادَ الله منهما، واستمر عملهم على ذلك، فكانت الآية مُبينة في حقهم لا مُجْمَلة‏.‏ وأما عَدِيّ بن حاتم فكان بَدَوِيّاً مُشتغلاً بالصيد، ولم يكن فيه حُنْكَة أهل الحاضرة، فحمل الآية على ظاهرها؛ ولذلك قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنك لَعِرَيضُ القَفا» فنزلت الآية تُبين لعدي مُرادَ الله عند الحاجة إلى البيان‏.‏ مع أن السيوطي ذكر في التوشيح خلاف هذا؛ ونصه‏:‏

قال بعضهم‏:‏ كأنَّ عديّاً لم يسمع هذه اللفظة من الآية؛ لأنها نزلت قبل إسلامه بمدة، وذلك أن إسلامه كان في السنة التاسعة أو العاشرة، بعد نزول الآية بمدة، قال‏:‏ علَّمنِي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصلاة والصيام، فقال‏:‏ «صلّ كذا، وصم كذا، فإن غابت الشمس فَكُلْ حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود، فأخذ الخيطين‏.‏‏.‏‏.‏» الحديث‏.‏ قال له- عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ألم أقل لك من الفجر‏؟‏» فتبين أن قوله في الحديث‏:‏ «فأنزل الله مِنْ الفجر» من تصرُّف الرواة‏.‏ ه‏.‏ مختصراً، فهذا صريح في أن الآية نزلت بتمامها مبينة فلم يكن فيها تأخير، والله تعالى أعلم‏.‏

ثم بيَّن تعالى غاية الصوم، فقال‏:‏ ‏{‏ثم أتموا الصيام إلى الليل‏}‏ فمن أفطر مع الشك في الغروب، فعليه الكفارة، بخلاف الشك في الفجر للاستصحاب‏.‏ ولما كان الاعتكاف من لوازم الصوم ذكر بعض أحكامه بإثره فقال‏:‏ ‏{‏ولا تباشروهن‏}‏ أي‏:‏ النساء ‏{‏وأنتم عاكفون في المساجد‏}‏، فالمباشرة للمعتكف حرام، وتُفسد الاعتكاف‏.‏

كانت المباشرة في المسجد أو خارجَه، وكان الرجل يكون معتكفاً فيخرج فيصيب زوجَه ثم يرجع، فنزلت الآية- ‏{‏تلك حدود الله‏}‏ قد حدها لكم، ‏{‏فلا تقربوها‏}‏ فضلاً عن أن تعتدوها، ‏{‏كذلك‏}‏ أي‏:‏ مثل هذا البيان التام، ‏{‏يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون‏}‏ محارمه‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدم أن صوم الخواص، وخواص الخواص، هو الإمساك عن الفُضول، وعن كل ما يقطع عن الوصول‏.‏ أو الإمساك عن شهود الأغيار، وعن كل ما يوجب الأكدار‏.‏ فإن عزَمَت النفس على هذا الصوم وعقَدَت النيّة عليه، حلَّ لها أن تُباشر أَبْكارَ العلوم اللدنية الوهبية، والحقائق العرفانية، وتفضي إلى ثَيبات العلوم الرَّسْمية الكسبية‏.‏ العلومُ اللدنية والوهبية شِعارُها، والعلومُ الرسمية دِثارها‏.‏ العلوم اللدنية لباس باطنها، والعلوم الرسمية لباس ظاهرها‏.‏

قال أبو سليمان الداراني‏:‏ إذا اعتادت النفوس على ترك الآثام جالت في الملكوت، ثم عادت إلى صاحبها بطرائف العلوم، من غير أن يُؤدّي إليها عالمٌ عِلْماً‏.‏ ه‏.‏

قال الحقّ تعالى‏:‏ ‏{‏علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم‏}‏ بدنس الهفوات، فمنعكم من مباشرة تلك العلوم الوهبيات، فلما عقدْتُم التوبة، وعزمتم على تركها، تاب عليكم وعفا عنكم، فالآن باشروها، وابتغوا ما كتب الله لكم، من الوصول إلى معرفته، والعكوف في حضرة قُدسه، وكلوا من ثمرات تلك العلوم، واشربوا من خمرة الحيّ القيّوم، حتى يَطْلُعَ عليكم فجرُ الكشف والبيان، وتُشرق على قلوبكم شمسُ نهار العرفان، فحينئذٍ تَضْمَحِلُّ تلك العلوم، وتمحي تلك المعالم والرسوم‏.‏ ولم يبقَ إلا الاستغراق في مشاهدة الحيّ القيّوم، فلا تباشروها وأنتم عاكفون في تلك المساجد‏.‏ فمشاهدةُ وجهِ الحبيب تُغنْي عن مطالعة المعالم والمشاهد‏.‏ تلك حدود الله فلا تقربوها، أي‏:‏ لا تقفوا مع تلك العلوم وحلاوة تلك الرسوم؛ فإنها تمنعكم من مشاهدة الحيّ القيّوم‏:‏ كذلك يبن الله آياته الموضَّحة لطريق وصوله للناس، لعلهم يتقون مشاهد ما سواه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ولما أراد الحقّ أن يتكلم على الحج قدَّم الكلام على الأموال؛ لأنها سببٌ في وجوبه، والوصول إليه في الغالب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏188‏]‏

‏{‏وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏188‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أصل الإدلاء‏:‏ إرسالُ الدَّلْو في الماء ليتوصل به إلى أخذ الماء من البئر، ثم أُطلق في كل ما يتوسل به إلى شيء، يقال‏:‏ أدلَى بمالِه إلى الحكام، أي‏:‏ دفعه رِشْوة، ليتوصل بذلك إلى أخذ أكثر منه، وهو المراد هنا، وفي القاموس‏:‏ أدلى برَحمِه‏:‏ توسَّل، وبحُجَّتِه‏:‏ أحضرَها، وإليه بمالهِ‏:‏ دفَعه‏.‏ ومنه‏:‏ ‏{‏وتُدْلوا بها إلى الحكام‏}‏‏.‏ ه‏.‏ و‏{‏تدلوا‏}‏ معطوف على ‏{‏تأكلوا‏}‏، مَنْهِي عنهما معاً‏.‏

يقوله الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ولا تأكلوا‏}‏ يا معشر المسلمين ‏{‏أموالكم‏}‏ أي‏:‏ أموال بعضكم بعضاً، ‏{‏بالباطل‏}‏ أي‏:‏ بغير حقّ شرعي؛ إما بغير حق أصلاً كالغضْب والسرقة والخيانة والخَدْع والتطفيف والغش وغير ذلك‏.‏ أو بحق باطل كما يؤخذ في السحر والكهانة والفأل والقِمار والجاه، وهَدِية المِدْيان، وهدية القرض، والضمان، والرشوة، والربا، وغير ذلك مما نهى الشارعُ عنه‏.‏ ولا يدخل في ذلك التمائم والعزائم إذا كان بالقرآن أو السنّة وغلَب الشفاء، وكذلك لا يدخل أيضاً الغَبْن، إذا كان البائعُ عالماً بالمَبِيع‏.‏

أو ‏{‏ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل‏}‏ بأن تُنفقوها في المَلاهي والزنا والشرب واللواط، وغير ذلك من المحرمات، ولا ‏{‏تدلوا‏}‏ أي‏:‏ تتوسلوا بها، أي‏:‏ بدفعها ‏{‏إلى الحكام‏}‏ رشوة ‏{‏لتأكلوا فريقاً من أموال الناس‏}‏ بأن يحكم لكم بها القاضي، تأخذونها متلبسين ‏{‏بالإثم‏}‏ أي‏:‏ بالمعصية ‏{‏وأنتم تعلمون‏}‏ أنها لغيركم؛ فإنَّ حُكْمَ الحاكِم لا يُحِلُّ حراماً‏.‏

وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنَّما أنا بَشرٌ مثلُكُم، ولعلَّ بعضَكُمْ أن يكون الْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعضٍ فأقضي لهُ، فمن قَضَيتُ له بشيء من مال أخِيهِ فإنَّما لهُ قِطعةٌ من النارِ»‏.‏

الإشارة‏:‏ الباطلُ كلُّ ما سوى الحقّ، فكل من كان يأخذ من يد الخلق ولا يشاهد فيهم الحقّ فإنما يأخذ أموال الناس بالباطل‏.‏ قال في الحِكَم‏:‏ «لا تَمُدَّن يديك إلى الأخذ من الخلائق إلا أن تَرى أن المعطيَ فيهم مولاك، فإذا كنت كذلك فخُذْ ما وافقك العلم»‏.‏ ويحتاج العامل بهذا إلى عَسةٍ كبيرةٍ، وشُهودٍ قَوِي، حتى يَفْنَى عَنْ نظرهِ مشاهدةُ الخلق في شهود الملك الحق‏.‏ وكان بعضهم يطلب مَنْ هذا وصْفُه فيعطي للفقير العطاء، ويقول‏:‏ خذ، لا لك، فلا يسمع من أحد شيئاً، حتى أعطَى لبعض الفقراء، وقال‏:‏ خذ، لا لك، فقال‏:‏ أقبضُ لا منك‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ الوصول إلى الحكام على شأن الدنيا أو للانتصار للنفس حرام في طريق الخصوص، بل يصبر حتى يحكم الله بينه وبين خصمه، وهو خير الحاكمين، فإن اضطُرَّ إلى شيء ولم يجد بُدّاً منه فليُوكِّلْ، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏189‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏189‏)‏‏}‏

‏{‏يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ الذي سأله معاذُ بن جبل وثعلبةُ بن غنمة، فقالا‏:‏ يا رسول الله‏:‏ ما بال الهلال يبدو رقيقاً كالخيط، ثم لا يزال يزيد حتى يستوي، ثم لا يزال ينقص حتى يرجع كالخيط‏؟‏ فقال الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الأهلة‏}‏ أي‏:‏ عن حكمة اختلاف الأهلة بالزياة والنقص ‏{‏قل‏}‏ لهم يا محمد‏:‏ ‏{‏هي مواقيت للناس‏}‏ يُوقِّتُون بها دُيونهم، ويعرفون بها أوقات زَرْعهم، وعِدَدَ نسائهم وصيامهم، وهي أيضاً مواقيتُ للحج، يعرفون بذلك وقت دخوله وخروجه، فيعرفون الأداء من القضاء، فلو كانت على حالة واحدة لم يعرفوا ذلك‏.‏ أجابهم الحق تعالى بغير ما ينتظرون؛ أشارة إلى أن السؤال عن سر الاختلاف، ليس فيه منفعة شرعية، وإنما ينبغي الاهتمام بما فيه منفعة دينية‏.‏

قال أهل الهيئة‏:‏ إن نورة من نُور الشمس، وجِرْمه أَطْلَس، فكلما بعد من مُسَامته الشمس قابَله نورُها، فإذا قرب منها لميقابله من نورها إلا بعض جِرمه، فإذا دخل تحتها في الفلك كان ظَهره كله إليها، فلم يقابله شيء من نورها، فإذا خرج مِنح تحتِها قابله بقدر ذلك، والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا ظهر هلال السعادة في أفق الإرادة، وهبَّت ريح الهداية من ناحية سابق العناية، دخل وقت حج القلوب إلى حضرة علام الغيوب، فهلال الهداية للسائرين، وهم أرباب الأحوال أهل التلوين، يزداد نوره بزيادة اليقين، وينقص بنقصانه، على حسب ضعف حاله وقته، حتى يتحقق الوصال، ويُرزق صف الكمال‏.‏ وأنشدوا‏:‏

كُلَّ يومٍ تَتَلَوَّنْ *** غيرُ هذا بِكَ أَجْمَلْ

فصاحب التلوين بين الزيادة والنقصان، إلى أن تطلع عليه شمس العرفان، فإذا طلعت شمس العرفان فليس بعدها زيادة ولا نقصان، وأنشدوا‏:‏

طَلَعَتْ شمسُ من أُحِبُّ بلَيْلٍ *** واستضاءتْ فما تَلاها غُروبُ

إنَّ شَمْسَ النَّهارِ تَغْربُ باللي *** ل وشَمْسَ القُلوب لَيْسَتْ تَغيبُ

بخلاف صاحب التمكين؛ فإنه أبدا في ضياء معرفته، متكنٌ في بُرج سعادته، لا يلحق شمسَه كسوف ولا حجابٌ، ولا يستر نورَها ظلمةٌ ولا سحاب، فلو طلب الحجاب لم يُجَبْ‏.‏ قال بعض العارفين‏:‏ ‏(‏لو كُلتُ أنْ أَرى غيره لم أستطع، فإنه لا غير معه حتى أشهده‏)‏‏.‏

ثم حذَّر الحق تعالى مما اتبدعه المشركون في الحج، فقال189 ‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَن تَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِن ظُهُورِهَا وَلَكِنَ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُواْ الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏189‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ كانت الأنصار إذا حَجُّوا أو اعتمروا، يقولون‏:‏ لا يَحُول بيننا وبين السماء سَقْفٌ، حتى يدخلوا بيوتهم، فإذا رجعوا تسوَّرُوا الجُدْران، أو نَقَبُوا في ظهور بيوتهم، فجاء رجالٌ منهم فدخل من الباب، فَعُيِّر بذلك، فأنزل الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وليس البر‏}‏ أي‏:‏ الطاعة، ‏{‏بأن تأتوا البيوت من ظهورها‏}‏ فتتسوروها، أو تنقُبوا من أعلاها، ‏{‏ولكن البر من اتقى‏}‏ المحارم وخالف الشهوات‏.‏

أو‏:‏ ليس البر بأن تعكسوا مسائلكم بأن تسألوا عما لا نفع لكم فيه، وتتركوا مسائل العلم التي تنفعكم في العاجل والآجل‏.‏ ‏{‏ولكن البر من اتقى‏}‏ ذلك، ‏{‏وأتوا‏}‏ بيوت العلم من أبوابها، فتُحسنون السؤال وتتأدبون في المقال، وتقدمون الأهم فالأهم، والأنفع فالأنفع‏.‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فلا تُغيروا أحكامه، ولا تعترضوا على أفعاله ‏{‏لعلكم تفلحون‏}‏ بتوفيقه وهدايته‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن البيوت التي يدخلها المريد ثلاثة‏:‏ بيت الشريعة وبيت الطريقة وبيت الحقيقة، ولكل واحد أبواب فمن أتى البيت من بابه دخل‏.‏ ومن أتاه من غيره طُرد‏.‏

فبيت الشريعة له ثلاثة أبواب‏:‏ الباب الأول‏:‏ التوبة، فإذا دخل هذا الباب، وحقَّق التوبة بأركانها وشروطها، استقبله باب الاستقامة، وهي‏:‏ متابعة الرسول في أقواله وأفعاله وأحواله، فإذا دخله، وحقق الاستقامة، استقبله باب التقوى بأقسامها‏.‏ فإذا حقق التقوى ظاهراً وباطناً، دخل بيت الشريعة المطهرة، وتنزه في محاسنه ومعانيه، ثم يروم دخول بيت الطريقة، وله ثلاثة أبواب‏:‏

الباب الأول‏:‏ الإخلاص وهو‏:‏ إفراد العمل لله نم غير حرف ولا حظ، فإذا حقق الإخلاص استقبله باب التخلية وهي التظهير من العيوب الباطنة، وهي لا تنحصر، لكن من ظفر بالشيخ أطلعه عليها، وعلَّمه أودتيها، فإذا حقق التخلية استقبله باب التحلية، وهي‏:‏ الاتصاف بأنواع الفضائل كالصبر والحلم والصدق والطمأنينة والسخاء والإيثار، وغير ذلك من أنواع الكمالات‏.‏ فإذا حقق الإخلاص والتخلية والتحلية فقد حقق بيت الطريقة، ثم يستقبله بيت الحقيقة‏.‏

فأول ما يقرع باب المراقبة، وهي‏:‏ حفظ القلب والسر من الخواطر الردية، فإذا تطهر القلب من الخواطر الساكنة، استشرف على باب المشاهدة، وهي‏:‏ محو الرسول في مشاهدة أنوار الحيّ القيّوم، أو تلطيف الأواني عند ظهور المعاني، فإذا دخل باب المشاهدة، وسكن فيها، استقبله باب المعرفة، وهي محلّ الرسوخ والتمكين، وهي الغاية والمنتهى، فبيت الحقيقة وهو مسجد الحضرة الربانية‏.‏ وما بقي بعدها إلا الترقي في المقامات، وزيادة المعارف والكشوفات أبداً سرمداً، منحنا الله من ذلك حظّاً وافراً بمنّه وكرمه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏190- 195‏]‏

‏{‏وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ‏(‏190‏)‏ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ ‏(‏191‏)‏ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏192‏)‏ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏193‏)‏ الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ‏(‏194‏)‏ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ‏(‏195‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏التهلكة‏}‏‏:‏ مصدر هلك- بتشديد اللام- قاله ابن عطية‏.‏ وضمن ‏{‏تُلْقُوا‏}‏ معنى تفضوا، أو تنتهوا، فعدَّاه بإلى، أي‏:‏ ولا تفضوا بأنفسكم إلى التهلكة‏.‏ ولا يحتاج إلى زيادة الباء‏.‏

وسبب نزول الآية‏:‏ أن المشركين صَدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، وصالحوه على أن يرجع في قابل، فيخلوا له البيت ثلاثة أيام، فرجع لعمرة القضاء، وخاف المسلمون ألا يفوا لهم، فيقاتِلُوا في الحرم والشهر الحرام، وكرهوا ذلك، فنزلت الآية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله‏}‏ وإعلاء كلمته ‏{‏الذين يقاتلونكم‏}‏ أي‏:‏ يبدءونكم بالقتال، ‏{‏ولا تعتدوا‏}‏ فتقاتلوهم قبل أن يبدءوكم، ‏{‏إن الله لا يحب المعتدين‏}‏ لا ينصرهم ولا يؤيدهم‏.‏ ثم نسخ هذا بقوله‏:‏ ‏{‏وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 36‏]‏ الآية‏.‏ ‏{‏واقتلوهم حيث ثقفتموهم‏}‏ أي‏:‏ وجدتموهم، ولا تتحرجوا من قتالهم في الحرم، فإنهم هم الذين صدوكم وبدأوكم بالإذاية، ‏{‏وأخرجوهم‏}‏ من مكة ‏{‏حيث أخرجوكم‏}‏ منها، ‏{‏والفتنة‏}‏ أي‏:‏ الكفر الذي هم فيه، ‏{‏أشد من القتل‏}‏ لهم في الحرم، ‏{‏ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام‏}‏ ابتداءً ‏{‏حتى يقاتلوكم فيه، فإن قاتلوكم‏}‏ فيه ‏{‏فاقتلوهم‏}‏ فيه، وفي غيره، ‏{‏كذلك جزاء الكافرين‏}‏ يفعل بهم ما فعلوا بغيرهم، ‏{‏فإن انتهوا‏}‏ عن الشرك وأسلموا ‏{‏فإن الله غفور‏}‏ لهم ‏{‏رحيم‏}‏ بهم‏.‏ ‏{‏وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة‏}‏ أي‏:‏ شرك ‏{‏ويكون الدين‏}‏ خالصاً ‏{‏لله‏}‏ بحيث لا يبقى في جزيرة العرب إلا دين واحد، ‏{‏فإن انتهوا‏}‏ عن قتالكم، فلا تعتدوا؛ فإن ‏{‏لا عدوان إلا على الظالمين‏}‏ إذ لا يحسن أن يظلم إلا من ظلم‏.‏

القتال الصدر منكم لهم في ‏{‏الشهر الحرام‏}‏ في مقابلة الصد الذي صدر منهم لكم في الشهر الحرام، ‏{‏والحرمات قصاص‏}‏ يقتص بعضها من بعض، فكما انتهكوا حرمة الشهر الحرام، بمنعكم من اليبت، فانتهكوا حرمتهم بالقتل فيه‏.‏ ‏{‏فمن اعتدى عليكم‏}‏ بالقتال في الأشهر الحُرُم، أو في الحرَم ‏{‏فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم، واتقوا الله‏}‏ فلا تنتصروا لنفوسكم، ‏{‏واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏ بالحفظ والتأييد‏.‏

‏{‏وأنفقوا في سبيل الله‏}‏ في جهاد عدوكم، ولا تمسكوا عن الإنفاق فيه فتلقوا ‏{‏بإيديكم‏}‏ أي‏:‏ بأنفسكم ‏{‏إلى التهلكة‏}‏ أي‏:‏ الهلكة فيستولي عليكم عدوكم‏.‏

رُوِيَ عن أبي أيوب الأنصاري ‏(‏أنه كان على القسطنطينية، فحمل رجل على عسكر العدو، فقال قوم‏:‏ ألقى بيده إلى التهلكة، فقال أبو أيوب‏:‏ لا، إن هذه الآية نزلت في الأنصار، قالوا- لما أعز الله الإسلام وكثرب أهله-‏:‏ لو رجعنا إلى أهلينا وأموالنا نقيم فيها ونصلحها، فأنزل الله فينا ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏، وأما هذا فهو الذي قال فيه الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 207‏]‏‏)‏

أو‏:‏ ولا تنفقوا كل أموالكم فتتعرضوا للهلكة، أو الطمع في الخلق، ولكن القصد، وهو الوسط‏.‏

‏{‏وأحسنوا‏}‏ بالتفضل على المحاويج والمجاهدين‏:‏ ‏{‏إن الله يحب المحسنين‏}‏ فيحفظهم، ويحفظ عقبهم إلى يوم القيامة‏.‏

الإشارة‏:‏ أعلم أن أعداء الإنسان التي تقطعه عن حضرة ربه أربعة‏:‏ النفس والشيطان والدنيا والناس‏.‏ فمجاهدة النفس‏:‏ بمخالفة هواها، وتحميلها ما يَثقُل عليها حتى ترتاض، ومجاهدة الشيطان‏:‏ بعصيانه، والاشتغال بالله عنه، فإنه يذوب بذكر الله، ومجاهدة الدنيا‏:‏ بالزهد فيها، والقناعة بما تيسر منها، ومجاهدة الناس‏:‏ بالغيبة عنهم والإعراض عنهم في الإقبال والإدبار‏.‏ فيقول الحقّ جلّ جلاله للمتوجهين إليه‏:‏ ‏{‏وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم‏}‏ ويصدونكم عن حضرته، ولا تعتدوا فتشتغلوا بهم عن ذكري، والإقبال عليّ، ‏{‏إن الله لا يحب المعتدين‏}‏‏.‏ بل اقتلوهم حيث تعرضوا لكم فقط، فإذا ظهرت صورة النفس أدبها، ثم غاب في الله عنها، وكذلك بقية القواطع‏.‏

وكان شيخ شيوخنا سيدي علي الجمل رضي الله عنه يقول‏:‏ ‏(‏عداوة العدو حقّاً هي اشتغالك بمحبة الحبيب حقّاً، وأما إذا اشتغلت بعداوة العدو فاتتك محبة الحبيب، ونال العدو مراده منك‏)‏‏.‏ ه‏.‏ وأخرجوهم من قلوبكم من حيث أخرجوكم من حضرة ربكم، يعني‏:‏ كما أخرجوكم من الحضرة في أيام الغفلة، أخرجوهم من قلوبكم في أيام اليقظة‏.‏ والفتنة بالاشتغال بهم أشد من القتل لهم، ولا تقاتلوهم عند مسجد الحضرة وحال الغيبة في الله، فإن ذلك التفات إلى غير الله، كمن كان مقبلاً عليه حبيبه فجعل يلتفت إلى مَن يكلمه ويشغله عنه‏.‏ وذلك في غاية الجفاء، حتى يقاتلوكم فيه، ويريدون أن يخرجوكم منه بوسوستهم، فإن قاتلوكم، وخطر على بالكم شيء من وسوستهم، فاقتلوهم بذكر الله، والتعوّذ منهم، فإن الله يكفيكم أمرهم، وينهزمون عنكم، كذلك جزاء الكافرين‏.‏ فإن انتهوا عنكم، وانقطع عنكم خواطرهم، فغيبوا عنهم فإن الله يستركم عنهم، وقاتلوهم على الدوام حتى لا تكون في قلوبكم فتنة منهم، ويكون التوجه كله لله، لا ينازعه شيء مما سواه، فإن انتهوا عنكم فلا تتعرضوا لهم؛ فإن ذلك عدوان وظلم، ‏{‏فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 193‏]‏‏.‏

فإن جَنَحَتْ نفسُك إلى حرمة الطاعة الظاهرة؛ كتدريس علم أو جهاد أو غيرها، وأرادت أن تخرجك من حرمة الحضرة القدسية؛ وهي الفكرة والشهود والمعاينة، فقاتلها وأخرجها من حرمة تلك الطاعة، فالحرمات قصاص‏.‏ فكما أخرجتك من حضرة ربك القدسية أخرِجْها من حضرة الطاعة الحسية إلى الطاعة القلبية‏.‏ فإن الذَّرَّةَ من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح‏.‏

فمَن اعتدى عليكم، في زمن البطالة، فاعتدوا عليه في زمن اليقظة بمثل ما اعتدى عليكم‏.‏ وكان شيخنا البوزيدي رضي الله عنه يقول‏:‏ جوروا على نفوسكم بقدر ما جارت عليكم ه‏.‏ أي‏:‏ اقتلوها بقدر ما قتلتكم بالبعد عن ربكم‏.‏ وكان أيضاً يقول‏:‏ ‏(‏جوروا على الوهم قل أن يجور عليكم‏)‏‏.‏ ه‏.‏ واتقوا الله فإن الله يعينكم عليها، ‏{‏واعلموا أن الله مع المتقين‏}‏‏.‏ وأنفقوا أنفسكم ومهجكم في سبيل الله، بأن تطرحوها في يد الله يفعل بها ما يشاء‏.‏ ‏{‏ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة‏}‏ فتدبروا لها، وتختاروا لها، وتعتنوا بشؤونها، فإن ذلك غفلة عن ربكم‏.‏ ‏{‏وأحسنوا‏}‏ أي‏:‏ ادخلوا في مقام الإحسان؛ بأن تعبدوا لله كأنكم ترونه ‏{‏إن الله يحب المحسنين‏}‏ أي‏:‏ يقربهم إلى حضرته، ويصطفيهم إلى محبته ومعرفته، خرطنا الله في سلكهم بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏196‏]‏

‏{‏وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏196‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ المشهور في اللغة أن أحصر الرباعي‏:‏ بالمرض، وحصر الثلاثي‏:‏ بالعدو، وقيل‏:‏ بالعكس، وقيل‏:‏ هما سواء‏.‏ و‏{‏ما استيسر‏}‏‏:‏ خبر أو مبتدأ، أي‏:‏ فالواجب ما استيسر، أو‏:‏ فعليه ما استيسر‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وأتموا الحج‏}‏ الذي دخلتم فيه، ‏{‏والعمرة‏}‏ وجوباً كالصلاة والصوم، ويكون ذلك ‏{‏لله‏}‏ لا رياء ولا سمعة، وإنما خصّ الحج والعمرة بالحض على الإخلاص، لما يسرع إليهما من الخلل أكثر من غيرهما، فمن أفسدهما وجب عليه قضاؤهما، ‏{‏فإن أحصرتم‏}‏ ومنعتم من إتمامهما فتحللوا منهما، وعليكم ‏{‏ما استيسر من الهدي‏}‏، وذلك شاة ‏{‏ولا تحلقوا رؤوسكم‏}‏ أي‏:‏ لا تتحللوا ‏{‏حتى يبلغ الهدي محله‏}‏، أي‏:‏ حيث يحل ذبحه، وهو محل الإحصار عند الشافعي، فيذبح فيه بنية التحلل ويُفرق، ومِنَى أو مكة عند مالك، فيُرسله فإذا تحقق أنه وصل وذُبح حل وحلق‏.‏

ويحرم على المُحْرِم إزالة الشعث، ولبس المخيط بالعضو، فمن كان ‏{‏مريضاً أو به أذى‏}‏ صُداع أو نحوه، فحلق رأسه، أو لبس ثيابه، فعليه فديه ‏{‏من صيام‏}‏ ثلاثة أيام، ‏{‏أو صدقة‏}‏ على ستة مساكين، مُدَّان لكل مسكين، ‏{‏أو نسك‏}‏ بشاة فأعلى، فهو مخير بين الثلاثة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا عقد المريد مع ربه عُقْدةً، فالواجب عليه إتمامها حتى يَجْني ثمرتَها، فإذا عقد عقدة المجاهدة فليجاهد نفسه حتى يجني ثمرتها، وهي المشاهدة، وإذا عقد مع الشيخ عقدة الصحبة، فليلزم خدمته حتى يدخله إلى بيت الحضرة، ويشهد له بالترشيد‏.‏ وهكذا كل من عقد مع الله عقدة يجب عليه إتمامها، فإن أُحصر ومُنع من إتمامها فليفعل‏.‏ ما استيسر من ذبح نفسه وحط رأسه، و‏{‏لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَآءَاتَاهَا‏}‏ ‏[‏الطّلاَق‏:‏ 7‏]‏، ولا ينبغي أن يستعجل الفتح قبل إِبَّانِه، فلعلَّه يُعاقَب بحرمانه، فكم من مريد طلب شيخه أَنْ يُطلعه على سر الربوبية قبل بلوغ محله، فكان ذلك سببب عطبه، فيقال له‏:‏ ولا تحلق رأسك من شهود السوى حتى يبلغ هَديُ نفسك محلة فيذبح، فإذا ذُبِحت النفس وأُجهِز عليها حلق رأسه حينئذٍ من شهود السِّوى، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه‏.‏

إنْ تُرِدْ وَصْلَنَا فَمَوْتُكَ شَرْطٌ *** لا يَنَالُ الْوِصَال مَنْ فِيهِ فَضْلَهْ

فمن كان مريضاً بضعف عزمه، أو به أذى بعدم نهوض حاله، بحيث لم تُسعفْه المقادير في مجاهدة نفسه، فليشتغل بالنسك الظاهر من صيام أو صدقة أو قراءة أو غير ذلك، حتى يَمنَّ عليه العليمُ الحكيمُ‏.‏ وبالله التوفيق، وهو الهادي إلى سواء الطريق‏.‏

ولمّا ذكر الحقّ تعالى هدى الإحصار وفديَة الأذى، ذكر هدى التمتع، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ فإذا حصل لكم الأمن من المرض أو العدو، أوردتم الحج ‏{‏فمن تمتع‏}‏ منكم ‏{‏بالعمرة إلى الحج‏}‏ بأن قدَّم العمرة في أشهر الحج، ثم حجّ من عامه، فالواجب عليه ‏{‏ما استيسر من الهدي‏}‏؛ شاة فأعلى؛ لكونه تمتَّعَ بإسقاط أحد السَّفَرَيْن ولم يُفرِد لكل عبادة سفراً مخصوصاً‏.‏ ‏{‏فمن لم يجد‏}‏ الهدي، ولم يقدِر على شرائه، فعليه ‏{‏صيام ثلاثة أيام‏}‏ في زمن ‏{‏الحج‏}‏، وهو زمنُ إحرامه إلى وقوفه بعرفة، فإن لم يصم في ذلك الزمان صام أيام التشويق‏.‏ ثم يصوم سبعة أيام إذا رجَع إلى مكة أو إلى بلده‏.‏ فتلك ‏{‏عشرة‏}‏ أيام ‏{‏كاملة‏}‏، ولا تتوهموا أن السبعة بدل من الثلاثة، فلذلك صرّح الحقّ تعالى بفَذْلَكة الحساب‏.‏

وهذا الهَدْي أو الصيام إنما يجب على المتمتع؛ إذا لم يكن ساكناً بأهله في مكة أو ذي طَوى، وأما مَن كان ‏{‏أهلُه حاضري المسجد الحرام‏}‏ فلا هَدى عليه؛ لأنه يُحرم بالحج من مكة فلم يسقط أحد السفرين، ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في امتثال أوامره، وخصوصاً مناسك الحج؛ لكثرتها وتشعب فروعها، ولذلك أُفردت بالتأليف، ‏{‏واعلموا أن الله شديد العقاب‏}‏ لمن ترك أوامرَه وارتكب نواهيه، وبالله التوفيق‏.‏

الإشارة‏:‏ يقول الحقّ جلّ جلاله على طريق الإشارة للمتوجهين إليه‏:‏ فإذا أمنتُمْ من أعدائكم الذين يقطعونكم عن الوصول إلى حضرتنا، أو أمِنْتُم من الرجوع بعد الوصال، أو من السلب بعد العطاء، وذلك بعد التمكين من شهود أسرار الذات، وأنوار الصفات، إذ الكريم إذا أعطى لا يرجع، فإذا حصل لكم الأَمْن، فمن تمتع بأنوار الشريعة إلى أسرار الحقيقة فعليه ما استطاع من الهدي والسمت الحسَن والخلُق الحَسن؛ لأنه إذ ذاك قد اتصف بصفة الكمال وتصدَّر لتربية الرجال، فمن لم يجد ذلك فلرجع إلى ما تيسر من المجاهدة حتى يتمكن من ذلك الهَدْي الحسن والخلق الحسن، هذا لمن لم يتمكن في الحضرة الأزلية، وأما مَن كان مقيماً بها، عاكفاً في شهود أنوارها، فلا كلام عليه، لأنه قد تولاّه مولاه، وغيَّبَه عن شهود نفسه وهواه، فَأمْرُه كله بالله وإلى الله‏.‏ جعلنا الله فيهم بمنِّه وكرمه، لكن لا يغفُل عن التقوى؛ لقوله- عليه الصلاة والسلام‏:‏ «أنا أعرفُكُم بالله، وأنا أتقاكم له» وقالوا‏:‏ «من علامة النهايات الرجوعُ إلى البدايات»‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏197‏]‏

‏{‏الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ‏(‏197‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الحج‏}‏‏:‏ مبتدأ، على حذف مضاف، أي‏:‏ إحرامُ الحج أو فعلُ الحج، و‏{‏أشهر‏}‏‏:‏ خبر، وإذا وقع الزمان خبراً عن اسم معنى؛ فإن كان ذلك المعنى واقعاً في كل ذلك الزمان أو جُلِّه؛ تعيَّن رفعُه عند الكوفيين، وترجح عند البصريين إذا كان الزمان نكرة، نحو‏:‏ السفر يوم‏.‏ إن كان السفر واقعاً في جميع ذلك اليوم أو في جُلِّه؛ لأنه باستغراقه إياه صار كأنه هو، ويصح‏:‏ السفر يوماً، أو في يوم‏.‏ وإن كان ذلك المعنى واقعاً في بعض ذلك الزمان تعيَّن نصبُه أو جرَّه ف ‏(‏في‏)‏، نحو‏:‏ السفر يوم الجمعة، أو في يوم الجمعة وقد يرفع نادراً‏.‏

قال في التسهيل‏:‏ ويُغني- أيْ‏:‏ ظرف الزمان- عن خبر اسم معنى مطلقاً، فإن وقع في جميعه، أو في أكثره، وكان نكرة، رُفع غالباً، ولا يمتنع نصبه ولا جره بفي خلافاً للكوفيين‏.‏ وربما رُفع خبرُ الزمان المُوقَع في بعضه‏.‏ ه‏.‏ ومن ذلك‏:‏ ‏{‏الحج أشهر معلومات‏}‏ فإن جُلّضها تصلح للإحرام‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ وقتُ إحرام الحج ‏{‏أشهر معلومات‏}‏‏:‏ شوال وذو القعدة وذو الحجة، فمن أحرم قبلها كره عند مالك، وبطل عند الشافعي، ‏{‏فمن فرض‏}‏ على نفسه ‏{‏فيهن الحج‏}‏ فيلزم الأدب والوقار، ويجانبْ شهوة النساء، ‏{‏فلا‏}‏ يقع منه ‏{‏رفث‏}‏ أي‏:‏ جماع أو كلام فُحْش، ‏{‏ولا فسوق‏}‏ أي‏:‏ ذنوب، ‏{‏ولا جدال في‏}‏ زمان ‏{‏الحج‏}‏ ولو مع المكاري أو الخُدّام، ولا غيره من أنواع الخصام؛ فإنه في حضرة الملك العلام‏.‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير‏}‏ كحِلْم وصبر وحُسن خلق ‏{‏يعلمه الله‏}‏ فاستبقوا الخيرات، وتزودوا قبل هجوم الممات، واتقوا الله حق تقاته ‏{‏فإن خير الزاد التقوى‏}‏‏.‏ أو تزودوا لسفر الحج، ولا تسافروا كَلاً على الناس؛ ‏{‏فإن خير الزاد التقوى‏}‏ عن الطمع في الخلق، ‏{‏واتقون يا أولي الألباب‏}‏، وأفرِدُوني في سركم حتى أفتح لكم الباب، وأدخلَكم مع الأحباب‏.‏

الإشارة‏:‏ معاملة الأبدان مؤقتة بالأمكان والأزمان، ومعاملة القلوب أو الأرواح غير مؤقتة بزمان مخصوص، ولا مكان مخصوص، فحجَ القلوب، الأزمنةُ كلها له ميقات، والأماكن كلها عرفات، حج القلوب هو العلوب هو العكوف في حضرة علام الغيوب، وهي مُسَرْمَدَةٌ على الداوم على مَرِّ الليالي والأيام، فكل وقت عندهم ليلة القدر، وكل مكان عندهم عرفةُ المشرَّفةُ القدر، وأنشدوا‏:‏

لولا شهودُ جمالكم في ذاتي *** ما كنتُ أَرْضَى ساعةً بِحَياتي

ما ليلةُ القدرُ الْمُعَظَّمُ شأنُها *** إلا إذا عَمَرَتْ بكُم أوقَاتِي

إن المحبَّ إذا تمكَّنَ في الهَوَى *** والحبّ لم يَحْتَجْ إلى ميقاتِ

وقال آخر‏:‏

كُلُّ وقتٍ مِنْ حَبيبِي *** قدْرُهُ كأَلْفِ حَجَّة

فازَ مَنْ خلَّى الشَّوَاغِلْ *** وَلِموْلاَه تَوَجَّهْ

فمَنْ فَرض على قلبه حجَّ الحضرة فيلتزم الأدب والنظرة، والسكوتَ والفكرة، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108‏]‏ فلا رفث ولا فسوقَ ولا جدال ولا مراء، إذ مبنى طريقهم على التسليم والرضى، وما تفعلوا من خير فليس على الله بخفي‏.‏ وتزودوا بتقوى شهود السَّوَى، ‏{‏فإن خير الزاد التقوى‏}‏، وجِمَاعُ التقوى هي مخالفة الهَوى، ومحبة المولَى، فهذه تقوى أولي الألباب؛ الذين صفَتْ مِرآة قلوبهم، فأبصروا الرشد والصواب، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏198- 202‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ‏(‏198‏)‏ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏199‏)‏ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ‏(‏200‏)‏ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ‏(‏201‏)‏ أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏202‏)‏‏}‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أن تبتغوا‏}‏‏:‏ على إسقاط حرف الجر، أيْ‏:‏ في أن تبتغوا، وسبب نزول الآية‏:‏ أن عُكاظاً ومَجَنّة وذا المجاز- أسماء مواضع- كانت أسواقاً في الجاهلية يعمرونها في مواسم الحج، وكانت معايشهم منها، فلما جاء الإسلام تأثَّمُوا وتحرجوا أن يتجروا فيها، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح‏}‏ أي‏:‏ إثم أو ميل عن الصواب، في ‏{‏أن تبتغوا فضلاً من ربكم‏}‏ أي‏:‏ عطاء ورزقاً تستفيدونه من التجارة في مواسم حجكم، إذا خلَصَتْ نيتكم، وغلب قصدُ الحج على التجارة‏.‏

وها هنا قاعدةٌ ذكرها الغزالي في الإحياء وحاصلها‏:‏ أن العمل إذا تمحَّض لغير الله فهو سبب المقت والعقاب، وإذا تمحض الله خالصاً فهو سبب القرب والثواب، وإذا امتزج بشوْب من الرياء أو حظوظ النفس فينظر إلى الغالب وقوة الباعث؛ فإن كان باعث الحظ أغلب، سقط، وكان إلى العقوبة أقرب، لكن عقوبته أخف ممن تجرد لغير الله، وإن كان باعث التقرب أغلب، حُط منه بقدر ما فيه من باعث الحظ، وإن تساوي تقاوماً وتساقطاً وصار العمل لا له ولا عليه‏.‏

ثم قال‏:‏ ويشهد لهذا إجماعُ الأمة على أن مَنْ خرج حاجّاً ومعه تجارة صحَّ حجه وأُثيب عليه‏.‏ ثم قال‏:‏ والصواب أنْ يقال‏:‏ مهما كان الحج هو المحرّك الأصلي، وكان غرضُ التجارة كالتابع، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب، ثم طُرِّد هذا الاعتبار في الجهاد باعتبار الغنيمة، يعني‏:‏ يُنْظر لغالب الباعث وخُلوص القصد، وكذلك الصوم للحِمْية والثواب، ينظر لغالب الباعث‏.‏

قلت‏:‏ وتطَّرد هذه القاعدة في المعاملات كلها، وجميع الحركات والسكنات والحِرَف وسائر الأسباب، فالخالص من الحظوظ مقبول، والمتمحض للحظوظ مردود، والمَشُوب يُنظر للغالب كما تقدم‏.‏

وقد ذكر شيه المشايخ سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه قاعدة أخرى أدقّ من هذه فقال‏:‏ إذا أكرم الله عبداً في حركاته وسكناته، نصَب له العبودية لله وستر عنه حظوظ نفسه، وجعله يتقلّب في عبوديته، والحظوظ عنه مستورة، مع جَرْي ما قُدِّر له، ولا يلتفت إليها؛ لأنها في معزل عنه، وإذا أهان الله عبداً في حركاته وسكناته، نصب له حظوظ نفسه، وستر عنه عبوديته، فهو يتقلّب في شهواته، وعبودية الله عنه بمعزلِ، وإن كان يجري عليه شيء منها في الظاهر، قال‏:‏ وهذا باب من الولاية والإهانة‏.‏ وأما الصِّدِّيقية العظمى، والولاية الكبرى، فالحظوظ والحقوق كلها سواء عند ذوي البصيرة؛ لأنه بالله فيما يأخذ ويترك‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ العبد لا يستغني عن طلب الزيادة، ولو بلغ من الكمال غاية النهاية، فالقناعة من الله حرمان، واعتقاد بلوغ النهاية نقصان، فليس عليكم جناح أيها العارفون أن تبتغوا فضلاً من ربكم زيادة في إيقانكم، وترَقِّياً في معانيكم، إذ كمالات الحق لا نهاية لها، وأسرار الذات لا إحاطة بها، قال تعالى‏:‏

‏{‏وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 110‏]‏‏.‏ والله وليّ التوفيق‏.‏

ثم ذكر الحقّ تعالى الوقوف بعرفة، والرجوع إلى المزدلفة والمشعر الحرام، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أفضتُم‏}‏‏:‏ دفعتم، وأصل الإفاضة‏:‏ الدفع بقوة، من فاض الماء إذا نبَع بقوة، ثم استُعمل في مطلق الاندفاع على سبيل المبالغة‏.‏ و‏{‏عرفات‏}‏ فيه الصرف وعدمه، كأذرعات‏.‏ وسمى عرفات لقول إبراهيم الخليل عليه السلام لجبريل حين علَّمه المناسك‏:‏ قد عرفتُ‏:‏ أو لمعرفة آدم حواءَ فيها‏.‏ والكاف في ‏{‏كما هداكم‏}‏ تعليلية، و‏{‏ما‏}‏ مصدرية، أي‏:‏ واذكروه لأجل هدايته لكم‏.‏ و‏{‏إن كنتم‏}‏ مخففة، واللام فارقة، وقوله‏:‏ ‏{‏أو أشد‏}‏ نعت لمصدر محذوف، أي‏:‏ أو ذكراً أشد‏.‏‏.‏‏.‏ الخ‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ فإذا وقفتم بعرفة، وأفضتم منها، فانزلوا المزدلفة وبيِتُوا بها، فإذا صليتم الصبح بغلس فقفوا عند ‏{‏المشعر الحرام‏}‏، وهو جبل في آخر المزدلفة، واذكروا الله عنده بالتهليل والتكبير والتلبية إلى الإسفار، هكذا فعل الرسول- عليه الصلاة والسلام-، ‏{‏واذكروه‏}‏ لأجل ما هداكم إليه من معالم دينه ومناسك حجه، وغير ذلك من شعائر الدين، أو فاذكروه ذكراً حسناً هداكم هداية حسنة، وقد كنتم من قبل هذه الهداية ‏{‏لمن الضالين‏}‏‏.‏

وكانت قريش لا تقف مع الناس ترفعاً عليهم، بل تقف بالمزدلفة، فأمرهم الحق جلّ جلاله بالوقوف مع الناس، فقال لهم‏:‏ ‏{‏ثم أفيضوا‏}‏ يا معشر قريش ‏{‏من حيث أفاض الناس‏}‏ بأن تَقْضُوا معهم، وتفيضوا من حيث أفاضوا، ‏{‏واستغفروا الله‏}‏ في تغييركم مناسك إبراهيم وإسماعيل- عليهما السلامَ- ‏{‏إن الله غفور‏}‏ لكم، ‏{‏رحيم‏}‏ بكم إن تبتم ورجعتم واتبعتم رسولكم‏.‏ ‏{‏فإذا قضيتم مناسككم‏}‏ وفرغتم من حجتكم ‏{‏فاذكروا الله‏}‏ ذكراً كثيراً ‏{‏كذكركم آباءكم‏}‏ أو ذكراً ‏{‏أشد ذكراً‏}‏ منهم، حيث كنتم تَذْكُرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخَرة، وكانوا إذا فرغوا من حجهم وقَفُوا بِمنى، بين المسجد والجبل، فيذكرون مفاخرة آبائهم، ومحاسن أيامهم، فأُمِرُوا أن يُبدلوا ذلك بذكر الله، وذكر إحسانه إليهم، وشكر ما أسداه إليهم من مفاخر الدنيا والآخرة، إن آمنوا واتبعوا رسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

الإشارة‏:‏ إذا وقَفَت القلوبُ على جَبل عرفة المعارف، وتمكنت من شهود جمال معاني تلك الزخارف، حتى صارت تلك المعاني هي روحَها وسرَّها، وإليها مآلها ومسيرُها، أُمرتْ بالنزول إلى رض العبودية، والقيام بوظائف الربوبية، شكراً لما هداها إليه من معالم التحقيق، وما أبان لها من منار الطريق، وإن كانت من قبله لمن الضالين عن الوصول إلى رب العالمين‏.‏

ثم يؤمرون بمخالطة الناس بأشحباحهم، وانفرادهم عنهم بأرواحهم، أشباحُهم مع الخلق تسعى، وأرواحهم في الملكوت ترعى، فإذا وقع منهم ميل أو سكون إلى حِسّ؛ فليستغفروا الله ‏{‏إن الله غفور رحيم‏}‏‏.‏ ثم يقال لهم‏:‏ فإذا قضيتم مناسككم، بأن جمعتم بين مشاهدة الربوبية في باطنكم، والقيام بوظائف العبودية في ظاهركم، فاذكروا الله على كل شيء، وعند كل شيء، وقبل كل شيء، وبعد كل شيء، حتى لا يبقى من الأثر شيء، كما كنتم تذكرون آباءكم وأبناءكم، في حال غفلتكم، بل أشد ذكراً وأعظم وأتم، والله ذو الفضل العظيم‏.‏

ثم بيَّن الحقّ تعالى مقاصد الناس، وهممهم في طلبهم وسعيهم، فقال‏:‏

‏{‏‏.‏‏.‏‏.‏ فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ والله سَرِيعُ الحساب‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في بيان مقاصد الناس وهممهم في طلبهم في الحج وغيره‏:‏ ‏{‏فمن الناس‏}‏ من قصرت نيته وانحطت همته، ‏{‏يقول ربنا آتنا في الدنيا‏}‏ ما تشتهيه نفوسنا من حظوظها وشهواتها، وليس له ‏{‏في الآخرة من خلاق‏}‏ أي‏:‏ نصيب، لأنه عجَّل نصيبه في الدنيا‏.‏ «إن الله يرزق العبد على قدر نيته» ‏{‏ومنهم‏}‏ من أراد كرامة الدنيا وشرف الآخرة ‏{‏يقول ربنا آتنا في الدنيا‏}‏ حالة ‏{‏حسنة‏}‏؛ كالمعرفة، والعافية، والمال الحلال، والزوجة الحسنة، وجميع أنواع الجمال، ‏{‏وفي الآخرة حسنة‏}‏؛ كالنظرة، والحُور العين، والقصور، جميع أنواع النعيم، ‏{‏وقنا عذاب النار‏}‏ بالعفو والمغفر، وقال سيّدنا عليٍّ- كرَّم الله وجهه-‏:‏ ‏(‏الحسنة في الدنيا‏:‏ المرأة الصالحة،، وفي الآخرة‏:‏ الحَوْرَاء‏.‏ وعذاب النار في الدنيا‏:‏ المرأة السوء‏)‏ وقال الحسن‏:‏ ‏(‏الحسنة في الدنيا‏:‏ العلم والعبادة، وفي الآخرة‏:‏ الجنة‏)‏‏.‏ ‏{‏وقنا عذاب النار‏}‏‏:‏ احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى النار، وهذه كلها أمثلة للحالة الحسنة‏.‏

‏{‏أولئك‏}‏ الذين طلبوا خيرَ الدارَيْن ‏{‏لهم نصيب‏}‏ وحظٍّ من الجزاء الوافر من أجلْ ما كسبوا من الأعمال الصالحات، ‏{‏والله سريع الحساب‏}‏ يحاسب عباده على كثرتهم، وكثرة أعمالهم، في مقدار لَمْحة‏.‏ قيل لعليّ رضي الله عنه‏:‏ كيف يُحاسب اللّهُ عباده في ساعة واحدة‏؟‏ فقال‏:‏ كما يرزقهم في ساعة واحدة‏.‏ ه‏.‏ أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب عباده، فبادِرُوا إلى إغتنام الطاعات، واكتساب الحسنات، قبل هجوم الممات‏.‏

الإشارة‏:‏ الناس ثلاثة‏:‏ صاحب همة دَنِيَّة، وذو همة متوسطة، وصاحب همة عالية، أما صاحب الهمة الدنية فهو الذي أنزل همته على الدنيا الدنية، وأكبَّ على جمع حطامها الفانية، فقلبُ هذا خالٍ من حب الحبيب، فما له في الآخرة من نصيب‏.‏ وأما صاحب الهمة المتوسطة فهو الذي طلب سلامة الدارين، وصلاح الحالين، قد اشتغل في هذه الدار بما ينفعه في دار القرار، ولم ينسَ نصيبه من الدنيا لِيقْضِي ما له فيها من الأوطار، فهذا له في الدنيا حسنة، وهي الكفاية والغنى، وفي الآخرة حسنة، وهي النعمة والسرور والهنا‏.‏

وأما صاحب الهمة العالية فهو الذي رفع همته عن الكونَيْن، وأغمض طَرْفَه عن الالتفات إلى الدارين، بل علَّق همته بمولاه، ولم يقنع بشيء سواه، قد ولّى عن هذه الدار مُغضياً، وأعرض عنها مُولياً، ولم يشغله عن الله شيء، يقول بلسان المقال إظهاراً لعبودية للكبير المتعال‏:‏ ‏{‏ربنا آتنا في الدنيا حسنة‏}‏ وهي النظرة والشهود، ورضا الملك الودود، ‏{‏وفي الآخرة حسنة‏}‏ وهي اللحوق بأهل الرفيق الأعلى، من المقربين والأنبياء، في حضرة الشهود المؤبد ‏{‏في مقعد صدق عند مليك مقتدر‏}‏‏.‏ أتحفَنَا الله من ذلك بحظٍّ وافر، بمنِّه وكرمه، نحن وأحباءَنا أجمعين، آمين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏203‏]‏

‏{‏وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏واذكروا الله في أيام معدودات‏}‏ وهي ثاني النَّحْر وثالثُة ورابعُه، وهي أيام التشريق وأيام منى، وأما الأيام المعلومات فهي يوم النحر وثانِيه وثالثُه‏.‏ والمراد بالذِكْر‏:‏ التكبيرُ عند الرمي، وذبحِ القَرَابين، وخَلْفَ الصلواتِ الخمس، وغير ذلك، ‏{‏فمن تعجل في يومين‏}‏ بحيث رمَى ثانيَ النحر وثالثه، ورجَع، ‏{‏فلا إثم عليه ومن تأخر‏}‏ لرمى رابع النحر، وهو ثالث أيام منى، ‏{‏فلا إثم عليه‏}‏، والقصد بنفي الإثم‏:‏ التخيير والرد على الجاهلية، فإنَّ منهم مَن أَثم المتعجل، ومنهم من أثم المتأخر‏.‏ هذا كله ‏{‏لمن اتقى‏}‏ الله في حجه، لم يرفُث، ولم يفسُق، فإنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، كما قال الصادق المصدوق، ‏{‏واتقوا الله‏}‏ في جميع أموركم، فإنه ذكرٌ وشرفٌ لكم، ‏{‏واعلموا أنكم إليه تحشرون‏}‏ فتجازَوْن على ما أسلفتم من خير أو شر‏.‏

الإشارة‏:‏ الأيام المعدودات هي أيام الدنيا؛ فإنها قلائل معدودة، وهي كلها كيوم واحد، وأيام البرزخ يومٌ ثانٍ، وأيام البعث وما بعده يوم ثالث، فمن تعجل في يومين، بحيث طوى في نظره أيام الدنيا وأيام البرزخ، وسكن بقلبه في يوم القيامة فلا إثم عليه، وهذا هو صاحب الهمة المتوسطة، ومن تأخر حتى زَهد في الأيام الثالثة، وعلق همته بمولاه، ولم يلتفت إلى ما سواه، فلا إثم عليه في ذلك التأخر، وإن اتقى شهود السوى، وعلق عمته بمحبة المولى، ثم حضّ سبحانه على هذه التقوى فقال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ فلا تشهدوا معه سواه، ‏{‏واعلموا أنكم إليه تحشرون‏}‏ فترَوْا ما فاز به المتقون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏204- 207‏]‏

‏{‏وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ ‏(‏204‏)‏ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ‏(‏205‏)‏ وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏206‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ‏(‏207‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ نزلت الآية في الأخنَسْ بن شريق الثقفي وصُهيب بن سنان الرومي، أما الأخنس فكان رجلاً حسن المنظر، حُلُو المنطق، كان يوالي رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدَّعي الإسلام، ثم ارتد، ومرَّ على زرع وحُمر للمسلمين فقتلها وأفسد الزرع، قال ابن عطية‏:‏ ولم يثبت أنه أسلم‏.‏ قلت‏:‏ بل ذكره في القاموس من الصحابة، فانظره، ولعله تاب بعد نزول الآية‏.‏ وأما صهيب الرومي فأخذه المشركون وعذبوه ليرتد، فقال لهم‏:‏ إني شيخ كبير؛ لا أنفعكم إن كنت معكم، ولا أضركم إن كنت عليكم، فخلّوني وما أنا عليه، وخذوا مالي، فقبلوه منه، وأتى المدينة فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال له‏:‏ «رَبِحْتَ يا أَبَا يَحْيى»‏.‏

وقيل‏:‏ نزلت في المنافقين ومَنْ نحَا نحوهم، وفيمن باع نفسه لله في الجهاد وتغيير المنكر من المسلمين‏.‏ و‏{‏في الحياة الدنيا‏}‏ يتعلق بالقول، و‏{‏ألد الخصام‏}‏ شديده، وفي الحديث‏:‏ «أبْغَضُ الرِّجالِ إلى اللّهِ الألدُّ الخَصِم» والخِصام‏:‏ مصدر، أو جمع خصيم‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏ومن الناس‏}‏ قوم حُلْ اللسان خرَاب الجَنَان، إذا تكلم في شأن الدنيا ‏{‏يعجبك قوله‏}‏ فيها لرونقه وفصاحته، ‏{‏ويُشهد الله‏}‏ أي‏:‏ يحلف على أنه موافق لقلبه، وأن ظاهره موافق لباطنه، وهو شديد الخصومة والعدواة للمسلمين، أو أشد الخصوم، ‏{‏وإذا تولى‏}‏ أي‏:‏ أدبر وانصرف عنك، ‏{‏سعى في الأرض‏}‏ أي‏:‏ مشى فيها بنية الإفساد ‏{‏ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل‏}‏ كما فعل الأخنَسْ، أو كما فعله أهل الظلم، فيَحْبِسُ الله القَطْر، فَيَهْلِكَ الحرثُ والنسل بشؤم معاصيهم، ‏{‏والله لا يحب الفساد‏}‏ أي‏:‏ لا يرتضيه، فاحذروا غضبه‏.‏ ‏{‏وإذا قيل له اتق الله‏}‏ وارجع عما أنت عليه من الفساد ‏{‏أخذته العزة‏}‏ أي‏:‏ حملته الحمية والأنفة بسبب الإثم الذي ارتكبه، فلا ينزجر عن غَيِّه‏.‏ أو حملَتْه الحمية على الإثم الذي يُؤمَر باتقائه‏.‏ ‏{‏فحسبه جهنم‏}‏ أي‏:‏ كَفَته عذاباً وعقاباً، وهي عَلَمٌ لدار العقاب، كالنار، ‏{‏ولبئس المهاد‏}‏ هي‏:‏ أي‏:‏ بئس الفراش الذي مهَّده لنفسه‏.‏

ونزل في مقابله، وهو صهيب، أو كل من بذل نفسه لله‏:‏ ‏{‏ونم الناس من يشري نفسه‏}‏ أي‏:‏ يبيعُها ويبذلها لله في الجهاد وغيره، ‏{‏ابتغاء مرضات الله‏}‏ والوصول إلى حضرته ‏{‏والله رؤوف بالعباد‏}‏ الذين يفعلون مثل هذا، فيدرأ عنهم المضَارّ، ويجلبُ لهم المَسَار أينما حَلُّوا من الدارين‏.‏

الإشارة‏:‏ الناس على قسمين‏:‏ قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم، وظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس، أعجبَك قولهم، وراقك منظرُهم، وإذا تكلموا في الآخرة، أو في المعنى، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة‏.‏ وفي بعض الكتب المنزلة‏:‏ «إنَّ مِنْ عِبَاد الله قوماً ألْسنَتُهُم أحْلَى منَ العَسَلِ، وَقُلُوبُهُمْ أمرّ مِنْ الصَّبْرِ، يَلْبَسُونَ للنَّاس جُلُودَ الضَّأنِ مِن اللِّينِ، يَجْتَرُّون الدُّنْيَا بالدين، يَقُولُ الله تعالى‏:‏ أبِي يَغْتَرُّونَ، وعليَّ يَجْترِئُون‏؟‏ حَلَفتْ لأُسلطنَّ عليهمْ فتْنةٌ تَدَعُ الْحَليم مِنْهُمْ حَيْرَانَ»‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يلبسون‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ‏.‏ كناية عن إظهار اللين والسهول ليخدع ويغر الناس ليتوصل إلى حظ نفسه من الدنيا، ومع ذلك يدعي موافقة ظاهره لباطنه، وهو شديد الخصومة لأهل الله، وإذا تولى عنك اشتغل بالمعاصي والذنوب، ليُفسد في الأرض، ويهلك الحرث والنسل بشؤم معاصيه، وإذا ذُكِّر‏:‏ أنِفَ واستكبر، وأخذته حمية الجاهلية، فحسبُه البُعد في نار القطيعة‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ قوم زَيَّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم، عمّروا قلوبهم بمحبة الله، وبذلوا أنفسهم في مرضات الله، قلوبهم في أعلى عليين، وأشباحهم في أسفل سافلين، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين‏.‏ قال بعض العارفين‏:‏ كلما وضعت نفسك أرضاً أرضاً، سما قلبك سماء سماء، وكل ما نقص من حسك زاد في معناك‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره» وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏208- 209‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏208‏)‏ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ‏(‏209‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏السلم‏}‏، بالفتح والكسر‏:‏ هو الاستسلام والانقياد، ويبعد هنا تفسيره بالصُّلْح، و‏{‏كافة‏}‏‏:‏ حال من الواو والسلم معاً، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ‏}‏ ‏[‏مريَم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب ‏{‏ادخلوا في‏}‏ شرائع الإسلام ‏{‏كافة‏}‏ بحيث لا تهملوا شيئاً منها، ولا تلتفتوا إلى غيرها، نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، حيث دخلوا في اسلام، وأرادوا أن يُعظّموا السبت، وتحرجوا من لحوم الإبل‏.‏ أو في المنافقين حيث أسلموا في الظاهر، ونافقوا في الباطن، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ في الظاهر، ادخلوا في الإسلام ‏{‏كافة‏}‏ ظاهراً وباطناً‏.‏ أو في المسلمين يأمرهم بالتمسك بشرائع الإٍلام كلها، والبحث عن أحكامها وأسرارها، ‏{‏ولا تتبعوا خطوات الشيطان‏}‏ أي‏:‏ طُرُقَه الدالة على التفريق والتفرق؛ ‏{‏إنه لكم عدو مبين‏}‏ أي‏:‏ بيّن العداوة‏.‏

‏{‏فإن زللتم‏}‏ عن طريق الجادَّة؛ ففرقتم بين أجزاء الشريعة، أو التفتُّم إلى غير شريعتكم، ‏{‏من بعد ما جاءتكم‏}‏ الآيات ‏{‏البينات‏}‏ الدالّة على صحة الدين ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فاعلموا أن الله عزيز‏}‏ أي‏:‏ غالب لا يُعجزه عقابكم، ‏{‏حكيم‏}‏ في إمهاله إلى وقت معلوم‏.‏

الإشارة‏:‏ أمر الحقّ جلّ جلاله جميعَ بالصلح معه والاستسلام لأحكامه، بحيث لا يَصْدُر منهم نِزَاعٌ لأحكامه، ولا اعتراض على أفعاله، بل يَنظرون ما يبرز من عنصر القدرة، فيتلقونه بالرضى والتسليم، أو الصبر والتصبر، سواء ظهرت هذه الأفعال على أيدي الوسائط أو بلا وسائط، إذ لا فاعل سواه، وكلٍّ من عند الله، فإن زللتم واعترضتم، أو سخطتم، من بعد ما جاءتكم الآيات البيّنات الدالة على وحدانية الحق في ذاته وصفاته وأفعاله، فاعلموا أن الله عزيز حكيم، لا يعجزه عقوبتكم وإبعادكم، لكنه من حكمته يُمهل ولا يهمل، والله غالب على أمره، ومن تاب تاب الله عليه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏210‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏210‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الظُّلَل‏}‏‏:‏ جمع ظُلَّه، وهي ما أظلَّك من فوق، و‏{‏الغَمام‏}‏‏:‏ السحاب الرفيق الأبيض‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ما ينتظر هؤلاء الممتنعون من الدخول في شرائع الإسلام- إلا أن تقوم الساعة، ويأتيهم الله للفصل بين عباده ‏{‏في ظلل من الغمام‏}‏، بأن يتجلّى لعباده على ما يليق بجلاله؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر‏.‏ وتأتيهم ‏{‏الملائكة‏}‏ تحيط بهم ‏{‏وقضي الأمر‏}‏ بعذابهم، ‏{‏وإلى الله ترجع الأمور‏}‏ كلها، فهو المتصرف وحده‏.‏ وقد ذكر المنذري حديث هذا التجلّي بطوله، وذكر فيه النزول والفصل بين عباده، والمرور على الصراط، والناس في أنار إيمانهم‏.‏ وذكره الفاسي في الحاشية بتمامه‏.‏ ومن كحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص، لم يُسْتَصْعَبْ عليه فَهْمُ هذا الحديث وأمثاله؛ لسعة دائرة معرفته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ في الآية تهديد لأهل الحجاب الذين لم يتحققوا بالصلح مع الله، بل هم يخاصمون الله في مظاهر خلقه، ويعترضون على الله في قضائه وحكمه، فقال لهم الحقّ جلّ جلاله‏:‏ هل ينتظر هؤلاء المنكرون عليَّ في أفعالي، المعترضون عليَّ في حكمي وإبرامي- إلا أن أتعرف لهم في ظُلل من الغمام، وهو سحب الآثار، فإذا أنكروني أخذتهم الملائكةُ، وقضي الأمر بهلاكهم، وإلى الله تُرجع الأمور كلها، فليلتزم العبد الأدب مع مولاه، وليُسلم الأمور كلها إلى الله، إذ لا موجود سواه، فما برز من العباد‏:‏ كله من الله، فمن اشتغل بعتابهم فاته الأدب مع الله، إلا ما أمرتْ به الشريعة، فليكن في ذلك كالعبد يُؤدب ابنَ سيده؛ يده تؤدب وقلبه يعظم، والله تعالى أعلم وأرحم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏211‏]‏

‏{‏سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ‏(‏211‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏كم‏}‏ خبرية، أو استفهامية، محلها نصب بفعل محذوف يُقدر مؤخراً للصدرية، أي‏:‏ كم آياتنا آتيناهم، أو رفع بالابتداء، والعائد محذوف، أي‏:‏ آتيناهموه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله لرسوله- عليه الصلاة والسلام- أو لكل سامع‏:‏ ‏{‏سل بني إسرائيل‏}‏ سؤال تقريع، وقل لهم‏:‏ ‏{‏كم أتيناهم من آية بينة‏}‏ أي‏:‏ كثيراً ما آتيناهم من آية واضحة في شأنك، تدل على صدق رسالتك وعلو شأنك وفخامة أمرك، اعتناء بأمرهم، ونعمة على مَنْ أدرك زمانك منهم‏.‏ ثم إنهم بدلوا نعمة الله كفراً، وجحدوا فكتموا تلك النعمة وكفروها، ‏{‏ومن يبدل نعمة الله‏}‏ من بعد مجيئها إياه، ‏{‏فإن الله شديد العقاب‏}‏ لمن كفر نعمه وجحد رسله، نعوذ بالله من السلب بعد العطاء، ومن كفران النعم، وحرمان الرضا‏.‏

الإشارة‏:‏ ما قيل لبني إسرائيل، يقال لمن تحقق بولاية ولي من أولياء الله، ثم جحدها وكتمها، وحرّم نفسه بركة ذلك الولي، فمات على مرضه، فيقال له‏:‏ ‏{‏ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب‏}‏‏.‏ وعقوبته‏:‏ أن يلقى الله بقلب سقيم، فيُبعث مع عوام أهل اليمين، ويُحرم درجة المقربين، التي تلي درجة النبيين والمرسلين‏.‏ عائذاً بالله من الحرمان، وشُؤمِ عاقبةِ الخذلان‏.‏

ثم ذكر الحقّ جلّ جلاله سبب هذا الحرمان، وهو حب الدنيا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏212‏]‏

‏{‏زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏212‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏زُين‏}‏ مبني للمفعول، والفاعل هو الله، إذ لا فاعل سواه‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏زيّن للذين كفروا‏}‏ من اهل الكتاب وغيرهم، ‏{‏الحياة الدنيا‏}‏ أي‏:‏ حُسِّنَتْ في أعينهم، وأُشربت محبتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها، واعرضوا عن غيرها، فلم تتفرغ قلوبهم للتفكر والاعتبار، ولم تستمع آذانهم للوعظ والتذكار، بل أعمتهم، وأصمّتهم، وقصروا عليها همتهم، حتى جعلوا يسخرون ممن أعرض عنها، كفقراء المسلمين وأهل الصفة، فكانوا يستهزئون بهم، حيث رفضوا الدنيا وأقبلوا على الله، فرفعهم الله في أعلى عليين، وخفض الكفار في أسفل سافلين‏.‏ فهم يسخرون منهم في دار الدنيا ‏{‏والذين اتقَوْا فوقَهم يومَ القيامة‏}‏ لأنهم في عليين، والآخرين في أسفل سافلين‏.‏ أو لأنهم في كرامة، والآخرون في مذلة‏.‏ أو لأنهم يسخرون منهم يوم القيامة كما سخروا منهم في الدنيا‏.‏

وعبَّر بالتقوى لأنها سبب رفعهم واستعلائهم‏.‏ وأما استهزاؤهم بهم لأجل فقرهم، فإن الفقر شرف للعبد، والبسط في الدنيا على شرفه؛ فقد يكون استدراجاً، وقد يكون عوناً، فالله ‏{‏يرزق مَن يشاء بغير حساب‏}‏، أي‏:‏ بغير تقدير، فيوسع في الدنيا استدراجاً وابتلاء، ويقتر على مَي يشاء اختباراً وتمحيصاً، ‏{‏لاَ يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُون‏}‏ ‏[‏الأنبيَاء‏:‏ 23‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن عمل أهل الباطن كله باطني قلبي، بين تفكر واعتبار، وشهور واستبصار، أو نقول‏:‏ بين فكرة ونظرة وعكوف في الحضرة، فلا يظهرون من أعمالهم إلا المهم من الواجبات، ولذلك قال بعضهم‏:‏ إذا وصل العمل إلى القلوب استراحت الجوارح، ‏(‏ومعلوم أن الذرة من أعمال القلوب أفضل من أمثال الجبال من أعمال الجوارح‏)‏؛ لأن أعمال القلوب خفية، لا يطلع عليها ملك فيكتبها، ولا شيطان فيفسدها، الإخلاص فيها محقق‏.‏ وأيضاً‏:‏ «تفكر ساعة أفضل من عبادة ستين سنة»‏.‏ وسئل- عليه الصلاة والسلام-‏:‏ «أيُّ الأَعْمَال أَفْضَلُ‏؟‏ قال‏:‏» العلْمُ بالله «قيلَ‏:‏ يا رسُولَ الله سَأَلْنَاكَ عن العَمَل‏؟‏ فقال‏:‏» العلمُ بالله «، ثم قال صلى الله عليه وسلم‏:‏» إذا حَصَلَ العلمُ بالله كَفَى قلِيلُ العَملِ «أو كما قال عليه الصلاة والسلام،» فلما خفيت أعمال أهل الباطن سخر منهم أهل الظاهر، واستصغروا شأنهم؛ حيث لم يروا عليهم من الأعمال ما رأوا على العُبَّاد والزُهاد‏.‏ والذين اتقوا شهود ما سوى الله، أو كل ما يشغل عن الله، فوقهم يوم القيامة؛ لأنهم من المقربين وغيرهم من عوام المسلمين، والله يرزق من يشاء في الدارين بغير حساب، أي‏:‏ بغير تقدير ولا حصر، فيرزق العلوم، ويفتح مخازن الفهوم على مَن توجه إلى مولاه، وفرغ قلبه مما سواه «وبالله التوفيق‏.‏